الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.{والذين كفروا} مبتدأ وخبره جملة: {أعمالهم كسراب} الخ.وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو {أعمالهم}.ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظًا في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة.وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر.وهو أنه من جزاء كفرهم بالله.على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا.فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي: شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز: شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريمًا يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة.واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة.أي داخلة تحت إدراك الحواس.والسراب: رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء.وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرُّ الطبقة الهوائية التي فوقها حَرًّا أقل من حرارة الطبقة الملاصقة.وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها.وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض.وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا.فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها.فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء.ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار.ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر.وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سَراب.وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له: أم العرائس من جهات توزر، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر.وقوله: {بقيعة} الباء بمعنى في.وقيعة أرض، والجار والمجرور وصف {لسراب} وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة.وهذا كقولهم في المثل للذليل: هو فَقع في قرقر فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر.والقيعة: الأرض المنبسطة ليس فيها رُبّى ويُرادفها القاعة.وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد.وقوله: {يحسبه الظمآن ماء} يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل.و{حتى} ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع.ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله، كأن يحدده بشجرة أو صخرة.فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب.فهذا معنى قوله: {حتى إذا جاءه} أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء.وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بُعد كلما تقدم السائر في سيره.فضرب ذلك مثلًا لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر.وقوله: {لم يجده شيئًا} أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئًا.والشيء: هو الموجود وجودًا معلومًا للناس، والسراب موجود ومرئي، فقوله: {شيئًا} أي شيئًا من ماء بقرينة المقام.وهذا التمثيل كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23].و{إذا} هنا ظرف مجرد عن الشرطية.والمعنى: زمن مجيئه إلى السراب، أي وصوله إلى الموضع.وقوله: {ووجد الله عنده} هو من تمام التمثيل، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد مَنْ إن أخذ بناصيته لم يفلته، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب، وهو معنى قوله: {فوفاه حسابه} أي أعطاه جزاء كفره وافيًا.فمعنى {فوفاه} أنه لا تخفيف فيه، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده تِرة فأخذه.وجملة: {والله سريع الحساب} تذييل.والسريع: ضد البطيء.والمعنى: أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلًا.واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات.فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله.ففي قوله: {يحسبه الظمآن} استعارة مصرحة، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحه، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتْل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره.فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكتِه بالعدوّ، ورمز إلى العدو بقوله: {فوفاه حسابه}.وتعدية فعل {وجد} إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي.{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ}.شأن {أو} إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها.وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} في سورة البقرة (19)، أي مع اتحاد وجه الشبه.ومنه قول أمرىء القيس:
وقول لبيد: فإذا كان الكلام هنا جاريًا على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخرًا في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضًا لشدة تعاقبه، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحُه في رؤيته فكيف يرجو النجاة.وإن كان الكلام جاريًا على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه الشبه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهم غير مؤمنين بحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقًا.فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم.ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله: {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور}.وعلى الوجهين فقوله: {كظلمات} عطف على {كسراب} [النور: 39] والتقدير: والذين كفروا أعمالهم كظلمات.وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال: شاهدتُ سواد الكفر في وجه فلان.والظلمات: الظلمة الشديدة.والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات.ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها.وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام.ومعنى كونها {في بحر} أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات} وقد تقدم في سورة البقرة (19) إذ جعل الظلمات في الصيب.واللجِّيّ منسوب إلى اللجة، واللج هو معظم البحر، أي في بحر عميق، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم:والدهر بالإنسان دوّاريّ.أي دوّار، وكقولهم: رجل مشركي ورجل غلاّبي، أي قوي الشرك وكثير الغلب.والموج: اسم جمع موجة والموجة: مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطىء.وأصله مصدر: ماج البحر، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه.ومعنى: {من فوقه موج} أن الموج لا يتكسر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته.والسحاب تقدم في سورة الرعد (12).والسحاب يزيد الظلمة إظلامًا لأنه يحجب ضوء النجم والهلال.وقوله: {ظلمات بعضها فوق بعض} استئناف.والتقدير: هي ظلمات والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله: {أو كظلمات} لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد.وقرأ الجمهور: {سحاب ظلمات} بالتنوين فيهما.وقرأ البزي عن ابن كثير {من فوقه سحاب ظلمات} بترك التنوين في {سحاب} وبإضافته إلى {ظلمات}.وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع {سحاب} منونًا وبجر {ظلمات} على البدل من قوله: {أو كظلمات}.وقوله: {لم يكد يراها} هو من قبيل قوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة.وجملة: {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} تذييل للتمثيل، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى.وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما سبق من نظام تدبيره.وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول.وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلّبُه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله. اهـ.
|